لقَدْ عَزا الإنسانُ مُنْذُ القِدَمِ أسْبابَ الإصابةَ بالعللِ والأَمْراضِ والأزماتِ والنَّكَبات الشخصية إلى تَعَدّي الحُدُود الأخلاقية. فَحِينَ يُصابُ أحدٌ بآفة مَرَضيةٍ ما، أوْ يضطربُ سلوكُه أوْ نشاطُهُ أوْ يتعرّض لأية مِحْنَة مِنْ مِحَنِ الحياة يَتمّ تشخيص أوْ تعليل ما حَدَثَ على أنّه جَزاءٌ وفاقٌ لفعلٍ لا يُجوزُ قامَ به، أوْ فِعْلٍ يتوجّبُ لمْ يقمْ به. بِعِبارةٍ أخْرى أنّ ما أصابهُ مِنْ عِلّةٍ أوْ مَرض لَيْسَ إلا جريرة جرّها على نفسه نتيجة تعدّيه نُظُم الأخلاق والأعراف الإجتماعية التي تحْرصُ المَجْمُوعة على الإلتزام بها(2). ينطوي مَبْدَأ الكَرْما(karma) هذا، حيثُ قَدَرُ المَرْء فِي الحياةِ تحدده وتفرضه أعماله(3)، على ترغيبٍ وترهيبٍ ويشيعُ فِي ثقافات مختلفةٍ وقَدْ دَرَسَ هذا الأَمْر كثيرون ولكِنْ قلّما يجدُ المَرْءُ نَصّاً يعالجُ ظاهرةَ العِللِ والفضائح الجِنْسِية التي تَحلُّ نتيجة تَعَدّي القِيَم والمعايير الأخلاقية. سأحاوِلُ هنا أن أسلّطَ بَعْض الضوءِ على مَوْضُوع العِقاب الجِنْسِي فِي المَوْرُوث/ المُخَيّلَة الشَّعْبية وذلِكَ بِِسَرْدِ بَعْضِ القصص والأمثلة/ الأدلّة التي يتداولُها النّاس شفوياً جيلاً بعد جيلٍ فِي البلادِ التي جئنا مِنْها. وتماشياً مَعَ غرض المقالة هذه، سأعَرِّفُ العِقاب الجِنْسِي على أنه خَلَلٌ أوْ زَوَغانٌ يَعْترضُ النشاط الجِنْسِي، يقعُ بصُورَة تلقائية مثلُ لَعْنَة دونَ أنْ تكون له أسباب بايولوجية أوْ سايكلوجية واضِحَة، يحلّ بمن يرتكبُ فعلاً يخالف القواعد الأخلاقية والإجتماعية السائدة. ويُمْكُنُني صياغة التعريف بطريقة أخرى هكذا: أنْ يرتكبَ المَرْءُ عملاً مخالفاً للدّين/العُرْف/ الخير/الشّرْع/ فتكون عواقبُه ذات طبيعة جِنْسِية أوْ تَمُسًّ العَوْرَة أوْ العِرْضَ والشَّرَفَ كما يراه النّاس. أوْ هو كل حَدَثٍ ذي طبيعة تتعلق بنشاط جِنْسِي أوْ تمسُّ العِرْضَ/الشّرَفُ، يَقَعُ فَيُفَسّره/يَراهُ النّاسُ على أنه عِقابٌ أوْ جزاءٌ حَصل بسبب إرتكاب إثمٍ/ذنبٍ/جرمٍ/ظلمٍ/كذبٍ/هَرْطَقَةٍ/غضب الله. ويَمْتدّ التعريفُ ليشملَ أيضاًْ مسخ الكينونة الإنسانية أو الإماتة الفَوْريّة التي لا رَجْعَة فِيها للنشاط الجِنْسِي الإنساني التي تُصيبُ مَنْ يمارسُ نشاطاً جِنْسِياً خارجَ الحُدُود الأخلاقية المقبولةً. سأكتفِي ببَعْض الأمثلة، تلك الأمثلة هِيَ مِنْ وَحْي ما قِيلَ لي أوْ أتَخَيّلَهُ. وما قيلَ لي شَبيهٌ بما أتخيّل. لا خطّ يفصلُ هذا عَنْ هذا. بل هذا إمتدادٌ لهذا. آمل أن يُحَفّزَ ما أسْطرُهُ هنا البحثَ والنظر.
لقَدْ إرتَبَطَتْ السَّوْءَة النامية فِي ثنايا العِجان بِدَيْمُومَة الإنسان وَوُجوده. يلدُ بها ويُولَد مِنْها. وقَدْ تَمَيّزَ الإنسانُ الحديثُ عَنْ سائرِ الكائنات بمحاوَلَتِهِ الدائبة لإخفاء سَوْءَتِه/عَوْرَتِهِ/ أعْضاءِهِ التناسلية وتَنْظيم نَشاطها بِصُورَة طُقُوسِيّة صارِمَة رَغْمَ أنّه لَيْسَ هنالكَ مِنْ فائدة واضِحَة بالمَعْنى التَّطَوِّرِي الدارويني (التَّكَيُّف والبَقاء) لِستْر العَوْرَة ولا لِتَنْظيم نَشاطِ الباءَة. بالإضافة إلى ذلِكَ، أدّتْ السَّوْءَة وظائِفَ طَوْطَمِيَّة كثيرة فِي الحِقَب القديمة لإقترانها وإرتباطها الوَثيق بالخِصْب والتناسل والنّماء وأتتْ حِقْبَةٌ طويلة مِنْ تأريخ الإنسان طَغى فِيها تأليهُ الفالوس ومازالَتْ تشغلُ مكاناً كبيراً فِي الحَيّز الفاصل بين الدُنْيَوِي والمُقَدّس فِي الكثير مِنْ المُجْتَمَعات والثقافات. وقَدْ يكون طَقْسِ الإحتفال بالزواج إمتداداً لإحتفالات الإنسان القديم أوْ مِنْ بقايا طقوس العبادة الفالوسية/القضيبية.
لَيْسَ بِوِسْعِنا هنا تَشْخيص الجذور المِثلوجية والثيولوجية لظاهرة العِقابِ الجِنْسِي ولا الحَديث المُسهب عَنْ تأريخها ولكنّنا نودُّ التنَّبِيه إلى إشارةٍ رائعةٍ فِي المَوْروث الديني/القصص القرآنية وثيقة الصلة بما نَحْنُ بِصَدَدِهِ. لقَدْ ذَكَرَتْ قَصَصُ الخَلْق التّطَوّر الدرامتيكي الذي رافقَ النشوءَ المتأخّر للسّوْءَة رَغْمَ أنها لمْ تَتَحدثْ عَنْ الجوارح الأخرى. فَحِينَ نهضَ الإنسان مِنْ الطين وغامرَ فِي الجِّنانِ كان مُُنْفَرَجُ الفخذين مُزْغِباً يتلألأ مِنْه نور. لا فَرْجَ فِيه ولا غُرمُول. وحِينَ تعلّمَ الأسماءَ لَمْ يَكُ الجِنْسُ مِنْ الغرائز(4). بَعْدَ ذلِكَ عِنْدَما بَسَطََ يَديه إلى الشَّجَرَة وإقتَرَفَ الخطيئة إنطفأ ذلِكَ النور ونَمَتْ له فِي الموضع سَوْءَةٌ. فِي أوّلِ وَهْلة أصابَهُ فزعٌ شديد وَفرّ مِنْها هارباً على وَجْهِهِ وخَصف عليها الأوراق ليُخْفِيها(5). أخفاها بِوَرقٍ ولكِنْ قَدْ فاتَ الأوان إذْ تمّ طَرْدُهُ ممّا هُوَ فِيه، أي مِنْ الجِنان ونَفِيهِ إلى الأرض/الحياة الدنيا. ماذا يُسْتَخْلَصُ مِنْ هذا؟ إن إقتراف الخطيئة وتَعَدّي الحُدُود أفْضى أوْ أَدّى إلى إبْداءُ السَّوْءَة التي لَمْ تُخْلَقْ بَعْد، أوْ الوَعْيُ بوجودها والطرْد والنّبْذِ مِنْ الحَضْرةِ الإلهِيِّة. أيْ أنَّ آدم بِسَببِ حَواء أوْ آدم و حَواء بِسَببِ إبليس قاما بِشَيء يخالفُ ما أمَرَهُما بِهِ الله فعاقبهما بأن كَشَفَ سوآتهما وفَضْحهما وطردهما ونفاهما. يمكن رؤية هذا على أنه عِقاب جِنْسِي/فَضْح طراز-بدئي وَقَعَ نتيجة إقتراف الخطيئة الأولى وتَعَدّي الحُدُود. سَنلاحظُ أو نَوَدُّ أنْ نجادلَ فِي الأمثلة أدْناه أنَّ هذا المَشْهد مازالَ يتكرّرُ على هَيْئَة فَضْح جِنْسِي حيث تُكْشَفُ العَوْرَة/السَّوْءَة الجِنْسِية أوْ يَضْطربُ نشاطُها و يُؤَدِّي ذلِكَ إلى التَهْميشِ أوْ الطَّرْدِ مِنْ المُجْتَمَع.
يُصيبُ العِقاب الجِنْسِي مَنْ قام بالفعلِ الفاحِش المُنْكَر مباشرةً وقَدْ يصيبُ أحدَ أفراد عائلته. وقَدْ يُصِيبُ العِقاب شَخْصاً فَرْداً واحِداً ثُمّ يزولُ وقَدْ يَستمِرُّ العِقابُ فِي الذّريَّة يتوارثُونه صغيراً عَنْ كبيرٍ عبر الزمان. وقَدْ يَتمُّ تَسليط العِقاب على المُسِيءِ بصُورَة مباشرة مِنْ قبل قوى غَيْبِيّة/إلهيّة تتحكّمُ بمسار الأشياء وقَدْ يتِمُّ الإسْتشفاع بتلك القوى وحَضّها على التدخّل وإنزال العِقاب، كأنْ يَدْعُو أحدُهُم أنْ تَحِلّ بالمُسيءِ أوْ بأقارِِبِِهِ فَضِيحَةٌ تجلبُ العَيْبَ العظيمَ. وَيتخذُ العِقاب الجِنْسِي عِدّةَ أشكالٍ أوْ درجات وتَعْتَمِدُ شِدَّتُهُ أوْ مستوى العارِ الذي يَسْتَجْلِبُهُ على حَجْمِ الخطيئة المُسَبِّبَة لَهُ. وبناءً على الأمثلة التي نذكرُها هنا يُمْكُننا تَلَمّسَ ثلاثة أصناف-على الأقل- تَبَعاً للغايَةِ مِنْ العِقابِ وَنَوْعِهِ وَخُطُورَةِ الإساءَةِ التي يَرْتَكِبُها الإنسانُ وإعتماداً على الآثار النَّفْسية/التَّشريحية/الفَسْلجية/البايولوجية/الإجْتماعية التي تَنْتِجُ عَنْهُ: أولاً، فَضْحٌ تحذيري. ثانياً، زَوَغان أوْ إفراط النشاط الجِنْسِي. ثالثاً: الإماتة الفورية والمسخ و التّحَجُّر. ولكِنْ كما سَنَرى أدْناه فإنَّ هذهِ الأصناف تتراكبُ وتختلطُ وتتداخلُ فِيما بينها. فمَثلاً، جميعُ الأصناف تَشتملُ على فَضْحٍ مَحْضٍ مِنْ أجل عبرة أبدية، وجميعها يستهدف بصُورَة مباشرة أوْ غير مباشرة إماتة العَوْرَة/أداة التناسل بايولوجياً أو إجتماعياً أو تبديد نشاطها الطبيعي مِنْ أجل إضعاف المُسِيءِ وَمَنْعِهِ مِنْ التناسلِ والتّكاثُرِ فِي الحياة.
قَدْ يأتي العِقاب الجِنسي على شَكْل ِفَضْحٍ وتَحْذِير: مثلاً يَتَحَدَّثُ النّاس عَنْ إمرأة شريرة/ كاذبة أوْ ساحِرة ذهَبَتْ لزيارةِ مَرْقَدِ العبّاس ولكنّها ما إنْ دَخَلَتْ الحَضْرَة المُقَدّسة حَتّى طارَ ثَوْبُها فِي الهَواء وإرتفعَ فتبيّن للناسِ الطائفِين بالحَضْرَة المُقَدّسَة لََوْنُ لِباسِها الدّاخلي. إنّ الفَضْح أوْ العارَ الذي يُسببه الكَشْفُ عَنْ اللباس الدّاخِلي هو أقلّ مِنْ ذلِكَ الذي يُسبَّبُهُ كَشْفُ العَوْرَة عينها ولكنّه رَغْمَ ذلِكَ كَشْف يثيرُ الذعرَ و القشعريرةَ فِي نَفْسِ المَرْأة. هكذا جاءَتْ المَرْأةُ تَحجُّ وتتمنّى ولكنّها عادَتْ مُثقلة بالحُزن والعارِ والألَمِ. الإثم عِقابه فَضْح جِنْسِي! وهاكَ مثالاً آخر، يَتَحَدَّثُ النّاس عَنْ إمْرَأة نَذَرتْ أنْ تذبحَ خروفاً إذا عادَ إبنها حَيّاً مِنْ الحرب. بعد ذلِكَ عادَ الإبنُ وتجاهلتْ الأمُّ النذْرَ وحِينَ ذهبَتْ إلى مَرْقَد الحَمْزة سَقَطَتْ عَباءتها، فَرَفََعَتْها وَوَضَعَتْها فِي مكانها ولكنّ العَباءَة لَمْ تلبثْ حَتّى سَقطتْ فَبَدَتْ ملامحُ جَسدِ المَرْأة وَبانَتْ ضفائرها للرِّجالِ الطائفِين حَوْلَ الضَّرِيح. فِي هذا المِثال والمِثال الذي سَبَقَهُ قَدْ يأتِي هذا الحديث عَنْ إمرأة لها إسمٌ ويعرفها مَنْ يأتي بحديثها ولكِنْ غالباً يأتي الحديثُ على لِسانِ شاهِد عيان عَنْ إمرأة مجهولة. لاشَكَّ إنّ هذا تحذير وتأديب وأما نتائجه فتعتمدُ على ما يَفْعَلُهُ مَنْ رآها أوْ ما إذا كان أحدٌ فِي المزار المُقَدّسِ يَعْرفُها فَيَنْقُلُ خَبَرَها إلى المدينة التي قَدِمَتْ مِنْها فَتْفْتَضحُ إفتضاحاً كبيرأً. وأحياناً يَضُجُّ صاحِبُ الضَّرِيح أوْ سَدَنَة المزار فيتألبون لطرْدِها ونَبْذها خارج المكان وعندها يَتَحلّقُ النّاس الطائفون ينظرون ويتسمّعون ويؤوّلون ويَعْتَبِرُون ويتّعظون.
ومثال آخر للتحذير والإنذار هو ما جاءَ فِي الحديثِ عَنْ وهب: إذا كانَ الرجُل لا يُنكرُ عَمَل السُّوءِ على أهِلِهِ أوْ لا يَغار على أهْلِهِ، جاءَ طائرٌ يقالُ لَهُ الفَرْقَفَنَّة فيقعُ على مِشْرِيق بابِهِ فَيَمْكُثُ أرْبَعِين يوماً، فإنْ أنكرَ طارَ، وإنْ لَمْ يُنْكرْ مَسَحَ بجناحيه على عَيْنِيه فَصارَ قُنْذُعاً دَيُّوثاً. هنا تَتِمُّ معاقبة نُقْصانِ الغيرة بِمُفاقَمِةِ الأَمْر أوْ بإكمال النُّقْصان حَتّى يصلَ الأَمْر إلى نُقْطَة اللاّعَوْدَة ويُصبحُ الرّجُلُ دَيُّوثاً قوّاداً مُحْتَرِفاً.
وأمّا الصِّنْفُ الآخرُ مِنْ العِقاب الجِنْسِي فَهوَ زَوَغان نَشاطِ أداة التّناسل. إذا إقترفَ الإنْسانُ أَمْراً مِنْ الأمور المُسْتَقْبَحَة يَفْرُطُ أوْ يزوغُ نَشاطُه الجِنْسِي. والزّوَغان هنا هو تَجَلّي النشاط الجِنْسِي أوْ تصريفه أوْ إعْمالُه فِي غَيْرِ الوَجْهِ المُرادِ مثل البِغاءِ والمَثَلِيّة والبَهِيمِيّةِ أوْ ممارسة الجنس خارج إطار الزواج. ومِنْ الأمثلة على زَوَغان النشاط الجِنْسِي يَتَحَدَّثُ النّاس عَنْ رجُل سَرَقَ مُجَوْهَرات مِنْ البيوت فِي المُحَمّرَة أيام الحرب مَعَ/ضد إيران وبعد فترة مِنْ الزَّمِنِ أُصِيبَ إبْنُهُ الوَحيدُ بالشذوذ الجِنْسِي، أوْ هَرَبَتْ زوجته مَعَ عَشيقٍ لها أوْ هَرَبَتْ إبْنَتُهُ مَعَ صَديقها المُنْحَطّ. هنا نَرى إرتكابَ مَعْصِيَةٍ تَمَثّلَتْ بِسَرِقَةِ المُجَوْهَرات مِنْ بيوت الإيرانييّن الأبْرياء يَتْبَعُها عِقاب جِنْسِي يَتَمَثّلُ بالشذوذ والزّنا. ومِثالُ آخر، يَتَحَدَّثُ النّاس عَنْ رفِيق حزبي أشْعَث حَقير ظلمَ كثيراً مِنْ النّاس ونتيجةً لذلِكَ وعِقاباً له أصبحَ الرفِيق الحزبي مَثَلِيّاً أوْ رُبّما أصبَحَ أبنُه مَثَلِيّاً أوْ أصبَحتْ إبنته قَحْبة/بغياً.....إلخ. مثال آخر: يَتَحَدَّثُ النّاس عَنْ رجُلٍ سرَقَ بَعْض المال مِنْ رجُل سيد كريم فأصْبَحَ السّارِقُ قوّاداً يَجلبُ الزبائن لحلائله، أوْ رجُل ذَهَبَ إلى مَرْقَدِ العَبّاس وَحَلفَ يَمِيناً كاذبأ بأنّهُ هُوَ-ولَيْسَ إبْنَ عَمّهُ-مَنْ زَرَعَ نَخْلة الرّطبِ فِي البُسْتانِ، وَبَعْد أيّام مِنْ ذلِكَ هَربَتْ زوجته مَعَ رجُل آخر أوْ وجدوا إبنتَهُ مَعَ رجُل يَجْدلُ شَعْرَها فِي الساقية!
ويميلُ الزَّوَغان الجِنْسِي إلى الإستمرار، أي أنّهُ ما إنْ يُصيبُ المَرْءَ حَتّى يُصْبِحَ عِلَّةً لازِقَةً مُزْمِنَةً لا فكاكَ مِنْها ولا عِلاج وغالباً ما يَتُمّ تَوارِثها صَغيراً عَنْ كَبيرٍ كما هو حال الكاوَِلِيَّة وَهُمْ الغَجَر فِي البلاد التي جئنا مِنْها(6). وَيَتَّضِحُ هذا فِي حَدِيثُ مَنْشَأهم. إذ يقالُ أنه كان أحدُ الأنَّبِياء مُتأبطاً قِرْبة يَترنّمُ بالمَزاميرِ مُندهشاً مِنْ وحدانية الله. وكان فِي يدِهِ فأسٌ وكانَ يَحْتَطِبُ. فجأة وَخِلْسَةً تَحلّقَ الكُفّارُ حَوْلَه وطوّقوهُ ونَصَبوا حَوْلَه حَبائلَ مَتِينة فُتِلَتْ مِنْ لِيفٍ وَصُوفٍ مَتين. قَفَزَ النَّبِي وأختبأ فِي ظِلِّ أثْلَة أوْ طََرْفاءَة عالية فرآه رجُل يقال له كاوْ (الواو ساكنة). قَََهْقَهَ كاوْ وَصَفَرَ صَفِيراً شَدِيداً وَدَلّهُم عَلَيْهِ. قُيّدَ النَّبِي مِنْ يديه ورِجْلَيْهِ وَرَمُوهُ فِي خِرْجٍ على ظَهْرِ بَغْلٍ. وفِي طَرِيقِهِ إلى حَتْفِهِ إلتَفَتَ النَّبِي إلى كاوَ وَقال لَهُ: كاوْ وَلّ (7)، أي: كاوْ أغربْ ! أدْبرْ! بَعْدَ ذلِكَ كُلّما رَأى النّاسُ كاو قالوا لَهُ كما قالَ النَّبِيُ الشهيدُ كاوْ وَلِّ. ولكِنْ مَعَ كثرة الإستعمال رُكّبَتْ الكَلِمَتان ببَعْضهما وأصَبَحَتا كَلِمَةٍ واحِدِةٍ وخُففتْ حَتّى أصَبحتْ تُلفظ هكذا كاوَلِي بكسر الواو أو فتحها وكسر اللام ودُعِيَتْ ذُرِّيَةِ كاوْ بِـ كاوِلِِيّة وَهُمْ إلى اليَوْمِ باقون يُخَيِّمُونَ فِي مَداخِلِ المُدُنِ وفِي ضَواحيها وبَيْنَ مَزارعِ الرُّزِّ بَعْدَ أنْ تَنَصّلَتْ مِنْهم المُدُن. وُهُمْ يَقْتَرِفُونَ الفَواحش أوْ يبيعون الحُبَّ الفاجِرَ والدعارة ببَعْض النقود، مِهْنَة يتوارثونها كابراً عَنْ كابرٍ. أي أن هذا مثال للزوغان الجِنْسِي (فجور وبغاء ودعارة) تتوارثه الأجيال مِنْ جَرّاءِ فظاعة إرتكبها السّلَفُ. وكُنّا نَرى الكاوِلِيّة حِينَ يَمرُّون فِي الأسواق. لا شَيءَ يدلُّ عَلَيْهم غَيْرَ أنّ جلابيبَ نساءهم لها بَريق يَسُرّ. وكنا و كان السابِلَةُ يَرْمُونَهم بِعُيُونٍ ذِئْبِيّة شَبِقَةٍ!
وأما الصنف الثالث مِنْ العِقاب الجِنْسِي فهو المسخ أوْ إلإماتة: مَنْ يتجاوز الحُدُود يَتعرضُ نشاطه الجِنْسِي إلى وَقْفٍ فَوْرِي لمَنْعِهِ مِنْ التناسل والحياة والإنجاب وكذلِكَ ليكون عبرة للآخرين وخير وسيلة يتأتّى بها هذا هو مَسْخ الكينونة الإنسانية. هكذا تَمّ مَسْخ المُسيئين إلى كائنات مُتَحَجّرة شاخِصة يُعْتَبرُ بها على الدّوام. فقَدْ ذكرَ الكَلْبي حَديثَ إساف ونائلة نقلاً عَنْ إبن عباس أنّ رجُلاً مِنْ جُرْهُم يقال لَهُ إساف بِن يعلى و إمْرأة تُدْعى نائلة بنت زيدٍ مِنْ جُرْهُم أيضاً. وكان يَتَعَشّقَها فِي أرْضِ اليَمَنِ فأقْبَلا حُجّاجاً فَدَخَلا الكَعْبَة فَوَجَدا غَفْلَةً مِنْ النّاس وخلوة فِي البيت ففَجَرَ بها فِي البيت فَمُسِخا. فأصْبَحُوا فوجَدُوهما مِسْخَيْن مُتَحَجِّريْن. ومثال آخر على الإماتة هو أسد بابل الذي يُحْكى أنه رَجُلٌ باضَعَ أخته فَمَسَخمها الله حِجْراً جلمداً. وكانت صُورَة أسد بابل منتشرة فِي البيوت لأنها كانت على عُلَبِ الشّخّاط ويبدو على هَيْئَة أسد بارك على إنسان. وأما المثال الأخير عَنْ الإماتة فهو حِينَ حاول أحد أبناء الجنوب أن يغتال عُدي صدام. أصابَه بسبع عشرة رصاصة فِي الحوض و فِي العمود الفقري. ورَغْمَ أنه لم يهلك إلا انه أصبح عاجزاً جِنْسِياً كما يتناقل النّاس. أي أنه أصبح عاجزاً عَنْ الإنتصاب والإيلاج ولَيْسَ بوسعه أن يغتصب بنات النّاس كما كان شائعاً عَنْه. هكذا رَأى النّاس أن هذا لم يحدث إلا جزاءً وعِقاباً. ظَلامَةٌ وَعُنّةٌ!
وَقَدْ يُمسخُ المسيء بهيمةً أوْ سَبُعاً ضارياً لتجريده مِنْ هويته الإنسانية بصُورَة كاملة أوْ إخراجه مِنْ الجماعة الإنسانية. فقَدْ جاء فِي الكتب أن الفِيلَ كان رجُلاً يمارس الجنس المَثَلِي وأما الجرّي أوْ سمك السِّلَّور فقَدْ كان رجُلاً ديوثاً يجلب الرجال الزبائن لنساءه. و أما الدبُّ فقَدْ كان رجُلاً خنثى يدعو الرجالَ إلى نفسه..... إلخ. وقَدْ يُؤَدِّي العِقاب إلى تغيير الهَيْئَة التشريحية مِنْ أجل الفَضْح المستمر والعبرة العظيمة. لماذا تسترُ الشاة عجيزتها وترفعُ المِعْزاة ذيلها؟ كان أحدُ الأنَّبِياء يتهادى فِي الأباطح و يرتّل الآيات المعجزات ويغتبطُ. يتَدَبّر ويتفكّر بعملية الخلق والمخلوقات والأدلّة الناصعة على وجود الله مثل البَرْق و الريح التي تثير الغبار و قدرة إبن آوى على التمييز بين مناقير الدجاج في الحِنْدِس الظلْماء.... إلخ. كان نسيم الهواء عليلاً والشمس قرصها ساطع فِي السماء. وفجأة طلعَ الكُفّار مِنْ الكهف يطاردونه على الخيل. فَرَكَضَ النَّبِي سريعاً ورَكضَتْ وراءه خيلهم. أصابهُ إعياء وحِينَ رأى قطيعاً مِنْ الماشية حاوَلَ الإختفاء بينها ولكِنْ الماعز إنفرجَتْ عَنْه فَبانَ شَخْصُهُ بينما تكدّسَتْ الضأن حَوْلَه وأخفته حَتّى زالَ خطر الكفّار فدعا النَّبِي اللهَ أن يفَضْح المعزى إلى آخر الدهر ويسترَ الضأن. ومُنْذُ ذلِكَ الوقت أصبح للشاة ألْيَة(8) عريضة تتدلّى وتَضربُ على مِبْعَرها فلا يُبان مِنْه شيءٌ بينما يَرْتَفِعُ ذَيْلُ العَنْز فِي الهواء ويتقوّس مثل ذيل كلبٍ وتبدو عَوْرتها على الدوام. بالإضافة إلى ذلِكَ، بينما ينزو الكبش على الشاة فِي الخفاء يَتميّزُ الماعز بمبالغة وإفراط فِي الغلمة وشَغَبٍ أثناء السفاد وصَخَبٍ شديدٍ وروائح فرمُونيَّة عَجِيبة تضوعُ فِي المراح. لقَدْ كنا نسمع التّيْسُ يهتاجُ حِينَ يَغْتلِمُ وتحْمَرّ عيناه فِي البُسْتان فنَرْكُضُ هارِبين أوْ نتسلق جذوع الشجر!
وقَدْ تتم الإماتة الفورية أوْ المسخ للحيلولة بين المُعاقَبِ وإقتراف الإثم الجِنْسِي الفظيع مثل حكاية رجُل سامراء أوْ حكاية الرَّجُل المِلْح. تتداولُ النساء فِي المُدُن التي جئنا مِنْها حَديث سائق سَيّارة إستأجَرَتُهُ نُسْوَةٌ ذاهبات إلى العَتَبات المُقَدْسَة فِي سامراء. كانت النُسْوَةُ يرتّلْنَ أدْعِيَة الزيارة والتعاويذ بينما السيارة تنهبُ الطريقَ الترابي وتَتَرَجْرَجُ. فِي الطريق رأى السائقُ حُمْرة الأرض وإنتصاب مَلْوِيّة المسجد فَشَغَفَهُ الشّبقُ وأدْلى. خَرَجَ التستستيرون مِنْ نخامه وأخذَ يُغنّي و يَنْعَظُ ويَتَلَمَّظُ. خُفْنَ فَقُلْنَ لَهْ كنْ مِلْحاً فكان. إبيَضََّ وتَصَلَّبَ هَيْكلاً مِنْ الملح ثمَّ تَفَتّتَ وذابَ فِي الندى. يا حَسْرَةً عليه!
وأخيراً نذكرُ أوْضحَ مثالٍ يُمكننا أنْ نَسوقََه هنا وهو ما جاءَ فِي النَّصِّ القرآني لما جرى فِي سدوم وعمورة اللتين كان قَدْ تَمّ إنذارهما لأن الرّجالَ فِيهما كانوا يمارسون الجِنس المَثَلِي، إذْ كانوا يأتون الرجال دون النساء. مِنْ الملاحظ هنا أن هؤلاء النّاس قَدْ تَمّ تَحْذيرهُم وتَمَّ القضاء عليهم جميعاً بَعْد اليْأس مِنْ حالهم. حيث تَمَّ تدمير مواطن النّاس فِي الصباح بِرمْيها بحجارة مِنْ سجّيل وجَعْل عاليها سافلها. هذا مثال لعِقاب جماعي سَبَقه إنذار. ويبدو مِنْ النص القرآني والتفاسير أن العِقاب قَدْ شَمَلَ الجميعُ بما فِي ذلِكَ النساء والأطفال الرّضّع ولا توجدُ أيةُ إشارة إلى مَوْقفِ النساءِ مما كانَ الرجالُ يفعلونه أوْ ما إذا كانت إهتماماتهُنّ أوْ مُيُولُهُنّ الجِنْسِية تِجاهِ الرِّجال أوْ مَثَلِية سِحاقِية. يبدو أن العِقاب الجَماعي الشامل لَيْسَ أَمْراً نادراً بَعِيد الحصول بل هو نتيجة مَنْطقية للفَحْشاء الإجتماعية كما جاء فِي الحديث:"لم تظهر الفاحِشة فِي قوم قط حَتّى يعلنوا بها إلا فشا فِيهم الطاعون والأوْجاع التي لم تكن مَضَتْ فِي أسلافهم الذين مضوا".
بصُورَة موجزة جداً، ماذا يُمكن أن يُسْتَنْتَجَ مما سَطَرْناهُ آنفاً؟ حِينَ يقترفُ الإنسان خطيئةً أوْ ظلامَةًًً أوْ هَرْطَقَةً أوْ يتجاوزُ الحُدُودَ التي يَرْسُمُها المُجْتَمَع فإنّ يَدَ القَدَرِ لَهُ بالمِرْصادِ تعاقبه عِقاباً جِنْسِياً. يتراوحُ هذا العِقاب مِنْ فَضْح مَحْضٍ مِثْل سُقوط العَباءة أوْ كَشْف العَوْرَة، إلى زَوَغان وإفراطِ نشاط أداة التناسل بشكلٍ لا يتفقُ مَعَ الضوابِط العُرْفية/الشَّرْعِية/الإجْتماعِيّة التي يأخذُ بِها المُجْتَمَع وقَدْ يُؤَدِّي العِقابُ إلى إطْفاء الرّغْبَة الجِنْسِية أوْ قََتْلها وإماتتها. مِنْ الواضح أنّ العقاب الجِنْسِي هو عِقابٌ بالشيء وَضِدّه. مُعادَلةٌ مُتوازِنَة إذا إهتزّ فِيها جانبٌ تأرجَحَ الجانبُ الآخر إرتفاعاً أوْ هبوطاً. نتساءَلُ كيفَ أصْبَحَتْ السَّوْءَة أوْ نشاطها مُرْتَكزاً للّعْنَةِ والعِقاب؟ إنّ العَوْرَة هِيَ أداةُ وجودِ الإنسان وَوَسيلته التكاثرية أوْ أنها الوَحِيدة التِي تُمَكّنهُ مِنْ سَكْبِ جيناته فِي الحَوْض الجيني لنوعه (الذخيرة الجينية البشرية) و بها وحْدها يُمْكُنه تخليد نَفسه وتأبيدها. وقَدْ تَضْطرِبُ أعضاءٌ أخرى مِنْ دون أنْ تؤثّرَ على قِدْرَة الإنسان على التناسل/تخليد/تأبيد نفسه. لِهذا فإنّ أيّة إعاقََة للوَظِيفَة الطّبيعية لأداة التناسل أوْ إضاعَة فُرَصِ تتويج نشاطها ضمن الإطار الإجتماعي الذي تَرْتَئِيِهِ الجَماعَة البَشَرِية يُؤَدِّي إلى الإنحسار والبَتْرِ وإنقِطاع النَسْل. هكذا، فإن النتيجة الحَتْمِيّة للعِقاب الجِنْسِي هِيَ قطع وعزل المسيء والضغط عليه حَتّى تنحسر فُرَصُ التكاثر والتناسل أمامَه. كيفَ يَحْدُثُ هذا؟ يُصبحُ المعاقب جِنْسِياً/المفضوح عنواناً للشائعات فِي الطرقات وفِي السوق وفِي مجالس رجال العشائر والنتيجة هِيَ أن فرص التزاوج/التناسل ستقلُّ أمامه لإنحطاطه وإنحرافه عَنْ المعايير التي تزن بها المجموعة سلوك أعضاءها. إذا فَضْح الرَّجُلُ جِنْسِياً كأنْ أصْبَحَتْ زَوْجَتُه بغياً، أوْ إلتهبتْ مشاعره المَثَلِية وباتَ يَنْشُدُ الوِلْدان أوْ يدعو الرجال إلى نفسه فأن أحداً لن يتزوج أبنته ولن يُزوجَ أي أحَدٍ إبنتَهُ لإبنِهِ والنتيجة هِيَ الحرمان مِنْ التكاثر والإنجاب وتمرير الجينات إلى الذرية أوْ تخليد النفس. قَدْ لا يبدو الأَمْر على هذه الدرجة مِنْ التزمّتْ والصرامة ولكِنْ أي مراقب يرصدُ عَنْ كَثَبٍ سَيَلْحَظُ أن هنالك "حصار" مُجْتَمَعي يُطَوّقُ المعاقبَ جِنْسِياً(أوْ من يقرب له) حَتّى تقلّ الخيارات التناسلية المتاحة أمامَهُ لأن المجموعة ستَرْغَبُ عَنْه وسَتَتَجَنّبُهُ وتَضْعفُ أواصرُهُ بها. وتُفْضِي الفَضائِحُ الأخرى مثل الزَّوَغان الجِنْسِي الذي يشتَمِلُ على المَثَلِية والزّنا والقُوادة ومُمارسة الجنس خارج إطار الزواج إلى نتائج مماثلة. فالزَّوَغان الجِنْسِي المقترن بالمَثَلِيّة يُؤَدِّي إلى تبديد طاقة الباءَة دونَ أن ينتج عَنْ تكاثر، وأما القوادة وممارسة الزنا والجنس خارج إطار النكاح الشرعي فإنها تؤدي إلى "إضاعة النفس" أو إختلاط خيوط النسب وصعوبة تمييزها فِي مُجْتَمَع يحرص عليها أشد الحرص. وأما المَمْسُوخ فيفقدُ القِدْرَة على الحياة الإنسانية لأنّهُ تَحَجّرَ أوْ لأنّ كينونته الإنسانية إمّحْت.
أخيراًً، إذا تَمَعّنا بالأَمْرِ جَيداً سنَرى أنّ وَظِيفَة العِقابِ الجِنْسِي فِي التّصَوّر/القصص الفولكلوي إنما هِيَ تلقين المَحْظور/التابو وتشفِيره فِي الذاكرة/الوعي، كما أنّ له عَقابيل دارْوِنِيّة لأنّ النتيجة الحتمية للعِقاب هِيَ إنحسار فُرَصِ التّكاثر والتّناسل وإنقطاع النّسْل وعدم تمرير الجينات إلى المستقبل: المحافظة على الحُدُود التي ترسمها المجموعة حَوْلَ نفسها فلا تُستباح. هذِهِ أمْثِلَةٌ تَنَخَّلْناها. ربّما تناولنا الأَمْر مرة أخرى.
الهوامش
1. لا تعكس هذه المقالة مَوْقفنا تِجاه أي إنسان أوْ أية مجموعة إجتماعية. هِيَ فقطْ مُحاولةٌ للتَحْديقِ طويلاً فِي المِرْآة للتدقيق فِيمَنْ نرى فِيها. يُمكن لأيِّ مُتأمِّلٍ أنْ يَرى
2. الأمثلة كثيرة على هذا، ولكن هاكَ مثلاً واحداً: عِنْدَما كُنّا فِي مُخَيّم رَفْحاء سَمِعْنا أنّ أحَدَهُم قَدْ شَتَمَ الله كثيراً فأصبحَتْ له حِنجَرة كَلبٍ وَفَقَدَ القِدْرَة على الكلام مِثلنا وََطَفقَ يَنْبَحُ ويُوَعْوعُ مثل الكَلبُ وزَعموا أنّهُ يَعضّ بِشَراسَة. ولكِنْ بعْد أن تحرَّيْنا بأنفسنا تبيّنَ أنّ الفتى إنما فقَدَ صَوْتهُ، بِصُورَة حادّة ومُؤقّتة، بِسَبب العِراك والصِّيَاح المُسْتَمِرّ الذي تَطَلَّبُهُ التنافس الشديد مَعَ الآخرين على الماء والطعام والبطانيات فِي الأيّام الأولى فِي ذلِكَ المَكان. يا لََها مِنْ أيّام غامِضة مُخِيفة! يجب الإشارة هنا إلى أن البرهنة على أن الحكاية غير حقيقية عِلْمياً وعملياً لا تُبطل مفعولها الرَّمْزي و لا تَلْغي وظيفتها الفولكلورية بَلْ حَتّى لا تُقلّلُ مِن تداولها وسَرَيانها. هل نَسْتَغْرب من هذا؟ إذا إستغربنا فعلينا أن نتذكر بأن هذا هو الحال في الكثير من جوانب الحياة السياسية/الدينية/التأريخية حيث يتم تخليق القصص والرّموز والخيالات التي تهيمن على حياتنا و تجري بها. حَباحبُ ترمي شعاعاً في ظلماء!
3. الكلمة التي تكافِئ، بصُورَة ما، الكارْما فِي اللَّهْجَة العِراقية الدّارِجَة هِيَ الحُوبَة. ومِنْ معاني الحُوبَة أوْ الحَوْبَة فِي العربية الفصحى: الأبوان والأخت والبنت أوْ القرابة مِنْ قبل الأم. تقول: لي عندهم حوبة إذا كانت لك قرابة مِنْ قبل الأم. الحوب الهَمّ والغَمّ والبلاء والحاجَةَ والـمَسْكَنَة والفَقْرَ. وأما الحوبة فِي اللهجة الدارجة فتعني قوة أوْ قدرة غير مباشرة/غير شخصية/غير إرادية تُمَكّنُ المَرْء بِصُورَة أُتوماتيكية مِنْ التأثير وردّ الإساءَة على الآخرين إذا أساءوا إليه. مثلاً، إذا ظلمَ أحدُهُم النّاس أوْ إستباحَ مَحارمهم أوْ سَرَقَ أموالهم ثم أصابتْ ذلِكَ الشخص الظالم مُصيبةٌ/كارِثةٌ ماليّة أوْ شخصية قالوا لَيْسَ ذلِكَ إلا حُوْبَة النّاس. وإذا غَدَرَ أحَدٌ بأحَدٍ ثم وقَعَ الغادرُ فِي تَهْلُكَةٍ، قالَ المَغْدُورُ إنما تلك حَوْبَتِي. أحياناً أوْ غالباً يشعرُ المَرْء بالظُّلْم/الحَيْف/الإجحاف/الغَدْر دون أن يرى حَوْبته تفعلُ فعلها بالمُعْتَدِي المُتَعَدّي الظالم. فِي هذه الحالة يبتهلُ المظلوم/المغدور ويدْعُو الله كي تَتَجلّى حَوْبته بقوة. إستمعوا إلى المَرْحُومَة عفِيفة إسكندر وهِيَ تغني: أريد الله يبين حوبتي بيهم!
4. قال وهَبٌ بن مُنَبّه كان لباسُ آدم وحواء نوراً على فرُوجِهما لا يَرى هذا عَوْرَة هذهِ ولا هذِهِ عَوْرَة هذا فلمّا أكَلا مِنْ الشجرة بَدَتْ لهم سوآتهم. وعَنْ إبن أبي كعب: كان آدم رجُلاً طويلاً كأنه نخلة سحوق، كثير الشعر فلما وقع بما وقع به مِنْ الخطيئة، بدت له عورته عند ذلِكَ، وكان لا يراها فإنطلق هارباً فِي الجنة فَتَعَلّقَتْ بِرَأْسِه شَجَرةٌ مِنْ شَجَر الجنة. فقال لها أرسليني فقالتْ أني غير مُرْسِلتك فناداه ربّه يا آدم أمِنّي تفرُ؟ قال آدم: رَبّي أني أسْتَحْييكَ... إلخ.
5. جاء فِي سورة الأعراف فِي القرآن: يا آدم أسكنْ أنت وزوجك الجَنّة فَكِلا مِنْ حَيْثُ شئتما ولا تَقْرَبا هذهِ الشّجَرَةِ فتكُونا مِنْ الظالمين. فوَسْوَسَ لَهُما الشيطان ليُبْدي لَهُما ما وُري عَنْهما مِنْ سوآتهما وقال ما نهاكَمُا رَبُّكُما عَنْ هذه الشجرة إلا أنْ تكونا مَلَكَيْن أوْ تكونا مِنْ الخالدين...فلما ذاقا الشجرة بَدَتْ لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما مِنْ ورق الجنة..."
6. يُطلَقُ على الغَجَر فِي البلاد التي جئنا مِنْها بالكاوْلِيّة بواوٍ ساكنة كأنها مَجْرورة بكسرة خفِيفة ولام مَجْرورة وياء مُشَدّدَة مفتوحة. فِي بَعْض مناطق تلك البلاد يَكْسُرُ النّاس حِكاية صَوْتُ الألْفُ فيَكونُ وَقْعُها فِي الإذن مِثلُ ياء ساكنة ولكن سكونها يختلفُ جداً عَنْ سكون الأصوات الذي نعتاده فِي العربية لأن هذه الياء الساكنة مثل هذا السكون تُغيّر/تُشَوِّهُ حَرَكَة الصوْت الذي يَسْبقُها فيأتي حائراً لا هو مَفْتوح ولا هو مَضمُوم ولا هو ساكن ولا مَكْسور، كأنهم يلفظونها هكذا كِيْوَلِيّة. و الغَجَر الكاوْلِيّة يَعِيشون فِي مُجْتَمَعات معزولة، رغبة وإختياراً أوْ قسراً، فِي المُدُن التي جِئْنا مِنْها ويُشاع عَنْهم أنهم إنما يعتاشون على ما يتقاضونَهُ مِنْ أجْرٍ لقاءَ مُمارسة الجنس مَعَ الرجال الزبائن الذين يأتونَهُم مِنْ المُدُن والقُرى المُجاوِرَة. كذلِكَ يقال أنهم يجيدون الرقص والطرب ويحدث أن يستجلبهم النّاس لإحياء حفلاتهم بالفرح والأغاني. وَقَدْ أخبرني أحدُ المُخضرمين المُعمّرين بأن حال الغَجَر فِي مطلع القرن العشرين أوْ فِي بداية تكون الدول العراقية كان مختلفاً جداً. إذ كانوا يمارسون الحِرَف والصناعات اليدوية: صَنْع المناجل، المساحي، الحياكة، صنع السُّروج. شيءٌ ما حَدَثُ وغيّر مسار حياتهم! هل هو النفط/الدّين/شيء آخر؟ لا أقصدُ هنا المواخير أوْ بؤر البغاء التي تستحدثها المُدُن مُنْذُ أقدم الأزمان. أنا أتحدث عَنْ مُجْتَمَعات الغَجَر حيث يعيش رجال ونساء وأطفال أوْ عوائل كاملة/قبائل/أجيال متوارثة.
7. وَلِّ: بواو مفتوحة ولام مُشَدّدَة مكسورة: فِعلُ أَمْر مِنْ الفِعْلِ المُعْتلِّ الآخر وَلّى يُولّي تَوْلِيَةً أي أدْبَرَ أوْ نأى أوْ هَرَب أوْ أعْرَضَ. وهِيَ كلمة فَصيحة نادرة الإستعمال فِي أيامنا هذه فِي العربية المكتوبة وتُسْتَخْدمُ كثيراً فِي الّلَهْجَة المَحْكِيّة فِي البلاد التي جِئْنا مِنْها على هَيْئَة فِعْل أَمْر يُقْصَدُ مِنْهُ الإستهجان الشَّدِيد والطَّرْد وعدم الترحيب بحال مَنْ تقالُ له.
8. ألْيَة: بهمزةٍ مفتوحة ولامٍ ساكنة وياءٍ مفتوحة كما جاء فِي قاموس لسان العرب هِيَ ما رَكَبَ العَجْزَ مِنْ اللّحْم والشّحم وجمْعُها أليات وألايا. وتشريحياً تُعَدُّ الألْيَة عبارة عن ذيل مُحَوَّرٍ. وهِيَ مِنْ الكلمات الفصيحة التي تُستخدم فِي اللغة المَحْكِية وتتحاشاها اللغة الرسمية المكتوبة. و تجدر الإشارة هنا إلى أن أهل بغداد ومَنْ يُحاولُ أنْ يحاكي حَداثَتَهم يلفظونها مُشَوّهَة مُحَرّفَةً كعادتهم هكذا: لِيَّة. وهمْ لا يلفظونها إلا مُكَرّرَة، أيْ هكذا لِيَة لِيَة كأنهم يُبَلعِمون شيئاً وهم حِينَ يلفظونها يشيرونَ بأصابعهم إلى السّواطير والقدور النحاسية الكبيرة ولا أحد يعرف مغزى كل ذلِكَ!